سورة النحل - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


قوله: {أتى أَمْرُ الله} أي: عقابه للمشركين.
وقال جماعة من المفسرين: القيامة. قال الزجاج: هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم، وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه. وقيل: إن المراد بأمر الله: حكمه بذلك، وقد وقع وأتى، فأما المحكوم به فإنه لم يقع، لأنه سبحانه حكم بوقوعه في وقت معين، فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود. وقيل: إن المراد بإتيانه: إتيان مباديه ومقدّماته {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} نهاهم عن استعجاله، أي: فلا تطلبوا حضوره قبل ذلك الوقت، وقد كان المشركون يستعجلون عذاب الله كما قال النضر بن الحارث {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32]، الآية. والمعنى: قرب أمر الله فلا تستعجلوه، وقد كان استعجالهم له على طريقة الاستهزاء من دون استعجال على الحقيقة، وفي نهيهم عن الاستعجال تهكم بهم. {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تنزه وترفع عن إشراكهم، أو عن أن يكون له شريك، وشركهم هاهنا هو ما وقع منهم من استعجال العذاب، أو قيام الساعة استهزاء وتكذيباً، فإنه يتضمن وصفهم له سبحانه بأنه لا يقدر على ذلك، وأنه عاجز عنه والعجز وعدم القدرة من صفات المخلوق، لا من صفات الخالق، فكان ذلك شركاً.
{يُنَزّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ} قرأ المفضل عن عاصم {تنزل الملائكة} والأصل: تتنزل، فالفعل مسند إلى الملائكة. وقرأ الأعمش {تنزل} على البناء للمفعول، وقرأ الجعفي عن أبي بكر عن عاصم {ننزل} بالنون، والفاعل هو الله سبحانه. وقرأ الباقون {ينزل الملائكة} بالياء التحتية إلاّ أن ابن كثير، وأبا عمرو يسكنان النون، والفاعل هو الله سبحانه؛ ووجه اتصال هذه الجملة بما قبلها أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم عن الله أنه قد قرب أمره، ونهاهم عن الاستعجال، تردّدوا في الطريق التي علم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فأخبر أنه علم بها بالوحي على ألسن رسل الله سبحانه من ملائكته، والروح: الوحي، ومثله: {يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15]. وسمي الوحي روحاً لأنه يحيي قلوب المؤمنين، فإن من جملة الوحي: القرآن، وهو نازل من الدين منزلة الروح من الجسد. وقيل: المراد أرواح الخلائق. وقيل: الروح الرحمة. وقيل: الهداية لأنها تحيا بها القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح. قال الزجاج: الروح ما كان فيه من الله حياة بالإرشاد إلى أمره.
وقال أبو عبيد: الروح هنا جبريل، وتكون الباء على هذا بمعنى مع، و{من} في {مِنْ أَمْرِهِ} بيانية، أي: بأشياء أو مبتدئاً من أمره، أو صفة للروح، أو متعلق ب {ينزل} ومعنى {على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} على من اختصه بذلك، وهم الأنبياء {أَنْ أَنْذِرُواْ}.
قال الزجاج: {أَنْ أَنْذِرُواْ} بدل من الروح، أي: ينزلهم بأن أنذروا، و(أن) إما مفسرة لأن تنزل الوحي فيه معنى القول، وإما مخففة من الثقيلة، وضمير الشأن مقدّر، أي: بأن الشأن أقول لكم أنذروا، أي: أعلموا الناس {أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ} أي: مروهم بتوحيدي، وأعلموهم ذلك مع تخويفهم، لأن في الإنذار تخويفاً وتهديداً. والضمير في أنه للشأن. {فاتقون} الخطاب للمستعجلين على طريق لالتفات، وهو تحذير لهم من الشرك بالله، ثم إن الله سبحانه لما أرشدهم إلى توحيده، ذكر دلائل التوحيد فقال: {خُلِقَ السموات والأرض بالحق} أي: أوجدهما على هذه الصفة التي هما عليهما بالحق، أي: للدلالة على قدرته ووحدانيته. وقيل: المراد بالحق هنا: الفناء والزوال {تَعَالَى} الله {عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: ترفع وتقدّس عن إشراكهم، أو عن شركة الذي يجعلونه شريكاً له.
ثم لما كان نوع الإنسان أشرف أنواع المخلوقات السفلية، قدّمه وخصه بالذكر، فقال: {خَلَقَ الإنسان} وهو اسم لجنس هذا النوع {مِن نُّطْفَةٍ} من جماد يخرج من حيوان، وهو المنيّ فنقله أطواراً إلى أن كملت صورته، ونفخ فيه الروح، وأخرجه من بطن أمه إلى هذه الدار فعاش فيها {فَإِذَا هُوَ} بعد خلقه على هذه الصفة {خَصِيمٌ} أي: كثير الخصومة والمجادلة، والمعنى: أنه كالمخاصم لله سبحانه في قدرته، ومعنى {مُّبِينٌ} ظاهر الخصومة وأضحها، وقيل: يبين عن نفسه ما يخاصم به من الباطل، والمبين هو المفصح عما في ضميره بمنطقه ومثله قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} [ياس: 77].
ثم عقب ذكر خلق الإنسان بخلق الأنعام لما فيها من النفع لهذا النوع، فالامتنان بها أكمل من الامتنان بغيرها، فقال: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ} وهي: الإبل، والبقر، والغنم، وأكثر ما يقال: نعم وأنعام للإبل، ويقال للمجموع، ولا يقال للغنم مفردة، ومنه قول حسان:
وكانت لا يزال بها أنيس *** خلال مروجها نعم وشاء
فعطف الشاء على النعم، وهي هنا الإبل خاصة. قال الجوهري: والنعم: واحد الأنعام، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. ثم لما أخبر سبحانه بأنه خلقها لبني آدم بين المنفعة التي فيها لهم فقال: {فِيهَا دِفْء} الدفء: السخانة، وهو ما استدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها. والجملة في محلّ النصب على الحال {ومنافع} معطوف على {دفء} وهي: درّها وركوبها ونتاجها، والحراثة بها ونحو ذلك.
وقد قيل: إن الدفء: النتاج واللبن. قال في الصحاح: الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها، ثم قال: والدفء أيضاً: السخونة، وعلى هذا فإن أريد بالدفء المعنى الأوّل فلا بدّ من حمل المنافع على ما عداه مما ينتفع به منها، وإن حمل على المعنى الثاني كان تفسير المنافع بما ذكرناه واضحاً.
وقيل: المراد بالمنافع النتاج خاصة؛ وقيل: الركوب {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي: من لحومها وشحومها. وخصّ هذه المنفعة بالذكر مع دخولها تحت المنافع لأنها أعظمها. وقيل: خصها لأن الانتفاع بلحمها وشحمها تعدم عنده عينها بخلاف غيره من المنافع التي فيها، وتقديم الظرف المؤذن بالاختصاص للإشارة إلى أن الأكل منها هو الأصل، وغيره نادر.
{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} أي: لكم فيها مع ما تقدّم ذكره جمال، والجمال: ما يتجمل به ويتزين، والجمال: الحسن، والمعنى هنا: لكم فيها تجمل وتزين عند الناظرين إليها {حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} أي: في هذين الوقتين، وهما وقت ردّها من مراعيها، ووقت تسريحها إليها، فالرواح رجوعها بالعشيّ من المراعي. والسراح: مسيرها إلى مراعيها بالغداة. يقال: سرحت الإبل أسرحها سرحاً وسروحاً: إذا غدوت بها إلى المرعى، وقدّم الإراحة على التسريح لأن منظرها عند الإراحة أجمل، وذواتها أحسن لكونها في تلك الحالة قد نالت حاجتها من الأكل والشرب، فعظمت بطونها وانتفخت ضروعها، وخصّ هذين الوقتين لأنهما وقت نظر الناظرين إليها، لأنها عند استقرارها في الحظائر لا يراها أحد، وعند كونها في مراعيها هي متفرّقة غير مجتمعة كل واحد منها يرعى في جانب.
{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} الأثقال: جمع ثقل، وهو متاع المسافر من طعام وغيره، وسمي ثقلاً لأنه يثقل الإنسان حمله، وقيل: المراد أبدانهم {إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقّ الأنفس} أي: لم تكونوا واصلين إليه لو لم يكن معكم إبل تحمل أثقالكم إلاّ بشق الأنفس لبعده عنكم، وعدم وجود ما يحمل ما لا بدّ لكم منه في السفر، وظاهره يتناول كل بلد بعيدة من غير تعيين؛ وقيل: المراد بالبلد مكة، وقيل: اليمن ومصر والشام لأنها متاجر العرب، {وشق الأنفس}: مشقتها. قرأ الجمهور بكسر الشين، وقرأ أبو جعفر بفتحها. قال الجوهري: والشق المشقة، ومنه قوله: {لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقّ الأنفس} وحكى أبو عبيدة بفتح الشين، وهما بمعنى، ويجوز أن يكون المفتوح مصدراً من شققت عليه أشق شقاً. والمكسور بمعنى النصف. يقال: أخذت شق الشاة، وشقة الشاة، ويكون المعنى على هذا في الآية: لم تكونوا بالغيه إلاّ بذهاب نصف الأنفس من التعب، وقد امتنّ الله سبحانه على عباده بخلق الأنعام على العموم، ثم خصّ الإبل بالذكر لما فيها من نعمة حمل الأثقال دون البقر والغنم، والاستثناء من أعمّ العام، أي: لم تكونوا بالغيه بشيء من الأشياء إلاّ بشقّ الأنفس.
{والخيل والبغال والحمير} بالنصب عطفاً على الأنعام، أي: وخلق لكم هذه الثلاثة الأصناف. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع فيها كلها. وسميت الخيل خيلاً لاختيالها في مشيها، وواحد الخيل خائل.
كضائن واحد الضأن. وقيل: لا واحد له. ثم علل سبحانه خلق هذه الثلاثة الأنواع بقوله: {لِتَرْكَبُوهَا} وهذه العلة هي باعتبار معظم منافعها، لأن الانتفاع بها في غير الركوب معلوم كالتحميل عليها وعطف {زِينَةُ} على محل {لتركبوها} لأنه في محل نصب على أنه علة لخلقها. ولم يقل: لتتزينوا بها، حتى يطابق {لتركبوها} لأن الركوب فعل المخاطبين، والزينة: فعل الزائن وهو الخالق. والتحقيق فيه: أن الركوب هو المعتبر في المقصود، بخلاف الزينة، فإنه لا يلتفت إليه أهل الهمم العالية، لأنه يورث العجب، فكأنه سبحانه قال: خلقها لتركبوها، فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة. وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر، ولكنه غير مقصود بالذات.
وقد استدلّ بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل، قائلين بأن التعليل بالركوب يدلّ على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها. قالوا: ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر، وإخراجها عن الأنعام، فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل. قالوا: ولو كان أكل الخيل جائزاً لكان ذكره، والامتنان به أولى من ذكر الركوب، لأنه أعظم فائدة منه، وقد ذهب إلى هذا مالك، وأبو حنيفة، وأصحابهما، والأوزاعي، ومجاهد وأبو عبيدة وغيرهم.
وذهب الجمهور من الفقهاء والمحدّثين وغيرهم إلى حلّ لحوم الخيل. ولا حجة لأهل القول الأوّل في التعليل بقوله: {لِتَرْكَبُوهَا} لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي غيره، ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر، ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب. وأيضاً لو كانت هذه الآية تدلّ على تحريم الخيل، لدلت على تحريم الحمر الأهلية، وحينئذٍ لا يكون ثم حاجة لتحديد التحريم لها عام خيبر، وقد قدّمنا أن هذه السورة مكية.
والحاصل: أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حلّ أكل لحوم الخيل. فلو سلمنا أن في هذه الآية متمسكاً للقائلين بالتحريم، لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال، ودافعة لهذا الاستدلال.
وقد أوضحنا هذه المسألة في مؤلفاتنا بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
{وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي: يخلق ما لا يحيط علمكم به من المخلوقات غير ما قد عدّده ها هنا. وقيل: المراد: من أنواع الحشرات والهوامّ في أسافل الأرض، وفي البحر مما لم يره البشر ولم يسمعوا به. وقيل: هو ما أعدّ الله لعباده في الجنة وفي النار مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولا خطر على قلب بشر. وقيل: هو خلق السوس في النبات، والدود في الفواكه؛ وقيل: عين تحت العرش؛ وقيل نهر من النور. وقيل: أرض بيضاء، ولا وجه للاقتصار في تفسير هذه الآية على نوع من هذه الأنواع، بل المراد أنه سبحانه يخلق ما لا يعلم به العباد، فيشمل كل شيء لا يحيط علمهم به، والتعبير هنا بلفظ المستقبل لاستحضار الصورة، لأنه سبحانه قد خلق ما لا يعلم به العباد.
{وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل} القصد: مصدر بمعنى الفاعل، فالمعنى: وعلى الله قاصد السبيل، أي: هداية قاصد الطريق المستقيم بموجب وعده المحتوم وتفضله الواسع؛ وقيل: هو على حذف مضاف، والتقدير: وعلى الله بيان قصد السبيل، والسبيل: الإسلام، وبيانه بإرسال الرسل وإقامة الحجج والبراهين. والقصد في السبيل هو كونه موصلاً إلى المطلوب، فالمعنى: وعلى الله بيان الطريق الموصل إلى المطلوب {وَمِنْهَا جَائِرٌ} الضمير في {منها} راجع إلى السبيل بمعنى: الطريق، لأنها تذكر وتؤنث. وقيل: راجع إليها بتقدير مضاف أي: ومن جنس السبيل جائر مائل عن الحق عادل عنه، فلا يهتدي به، ومنه قول امرئ القيس:
ومن الطريقة جائر وهدى *** قصد السبيل ومنه ذو دخل
وقيل: إن الطريق كناية عن صاحبها، والمعنى: ومنهم جائر عن سبيل الحق: أي عادل عنه، فلا يهتدي إليه، قيل: وهم أهل الأهواء المختلفة، وقيل: أهل الملل الكفرية، وفي مصحف عبد الله {ومنكم جائر} وكذا قرأ عليّ، {وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أجمعين} أي: ولو شاء أن يهديكم جميعاً إلى الطريق الصحيح، والمنهج الحق لفعل ذلك، ولكنه لم يشأ، بل اقتضت مشيئته سبحانه إراءة الطريق، والدلالة عليها {وَشَفَتَيْنِ وهديناه النجدين} [البلد: 10]. وأما الإيصال إليها بالفعل، فذلك يستلزم أن لا يوجد في العباد كافر، ولا من يستحق النار من المسلمين، وقد اقتضت المشيئة الربانية أنه يكون البعض مؤمناً، والبعض كافراً كما نطق بذلك القرآن في غير موضع.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس، قال: لما نزل: {أتى أَمْرُ الله} ذعر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} فسكنوا.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص قال: لما نزلت: {أتى أَمْرُ الله} قاموا، فنزلت: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}.
وأخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس {أتى أَمْرُ الله} قال: خروج محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج قال: لما نزلت هذه الآية {أتى أَمْرُ الله} قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض: إن هذا يزعم أن أمر الله أتى، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا: ما نراه نزل شيء، فنزلت: {اقترب لِلنَّاسِ حسابهم} [الأنبياء: 1] فقالوا: إن هذا يزعم مثلها أيضاً، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا: ما نراه نزل شيء، فنزلت: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} [هود: 8]. الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: {أتى أَمْرُ الله} قال: الأحكام والحدود والفرائض.
وأخرج هؤلاء عن ابن عباس في قوله: {يُنَزّلُ الملائكة بالروح} قال: بالوحي.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والبيهقي عنه قال: الروح أمر من أمر الله، وخلق من خلق الله، وصورهم على صورة بني آدم. وما ينزل من السماء ملك إلاّ ومعه واحد من الروح. ثم تلا {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} [النبأ: 38].
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن {يُنَزّلُ الملائكة بالروح} قال: القرآن.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لَكُمْ فِيهَا دِفْء} قال: الثياب {ومنافع} قال: ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً، قال: نسل كل دابة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ} يعني: مكة {لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقّ الأنفس} قال: لو تكلفتموه، لم تطيقوه إلاّ بجهد شديد.
وقد ورد في حلّ أكل لحوم الخيل أحاديث منها في الصحيحين وغيرهما، من حديث أسماء، قالت: نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه.
وأخرج أبو عبيد، وابن أبي شيبة، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن جابر قال: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية.
وأخرج أبو داود نحوه من حديثه أيضاً.
وهما على شرط مسلم. وثبت أيضاً في الصحيحين من حديث جابر، قال: «نهى رسول الله عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في الخيل» وأما ما أخرجه أبو عبيد، وأبو داود، والنسائي من حديث خالد بن الوليد قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن لحوم الخيل والبغال والحمير»، ففي إسناده صالح بن يحيى بن أبي المقدام، وفيه مقال. ولو فرضنا أن الحديث صحيح، لم يقو على معارضة أحاديث الحلّ، على أنه يكون أن هذا الحديث المصرّح بالتحريم متقدّم على يوم خيبر، فيكون منسوخاً.
وأخرج الخطيب وابن عساكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} قال: «البراذين».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما خلق الله أرضاً من لؤلؤة بيضاء» ثم ساق من أوصافها ما يدلّ على أن الحديث موضوع، ثم قال في آخره: «فذلك قوله: {ويخلق ما لا تعلمون}».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل} يقول: على الله أن يبين الهدى والضلالة. {وَمِنْهَا جَائِرٌ} قال: السبل المتفرّقة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل} قال: على الله بيان حلاله، وحرامه، وطاعته، ومعصيته {وَمِنْهَا جَائِرٌ} قال: من السبل ناكب عن الحق. قال: وفي قراءة ابن مسعود: {ومنكم جائر}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف عن عليّ أنه كان يقرأ هذه الآية {ومنكم جائر}.


لما استدل سبحانه على وجوده وكمال قدرته وبديع صنعته بعجائب أحوال الحيوانات، أراد أن يذكر الاستدلال على المطلوب بغرائب أحوال النبات فقال: {هُوَ الذى أَنْزَلَ مِنَ السماء} أي: من جهة السماء، وهي السحاب {مَاء} أي: نوعاً من أنواع الماء، وهو المطر {لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ} يجوز أن يتعلق {لكم} ب {أنزل} أو هو خبر مقدّم، وشراب مبتدأ مؤخر، والجملة صفة لماء، {وَمِنْهُ} في محل نصب على الحال، والشراب: اسم لما يشرب كالطعام لما يطعم، والمعنى: أن الماء النازل من السماء قسمان: قسم يشربه الناس، ومن جملته ماء الآبار والعيون، فإنه من المطر لقوله: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأرض} [الزمر: 21] وقسم يحصل منه شجر ترعاه المواشي. قال الزجاج: كل ما ينبت من الأرض فهو شجر، لأن التركيب يدل على الاختلاط، ومنه تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ وفيما له ساق.
وقال ابن قتيبة: المراد من الشجر في الآية الكلأ، وقيل: الشجر: كل ماله ساق كقوله تعالى: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6]. والعطف يقتضي التغاير، فلما كان النجم ما لا ساق له، وجب أن يكون الشجر ماله ساق، وأجيب بأن عطف الجنس على النوع جائز {فِيهِ تُسِيمُونَ} أي: في الشجر ترعون مواشيكم، يقال: سامت السائمة تسوم سوماً رعت فهي سائمة، وأسمتها، أي: أخرجتها إلى الرعي فأنا مسيم وهي مسامة وسائمة، وأصل السوم: الإبعاد في المرعى. قال الزجاج: أخذ من السومة، وهي العلامة، لأنها تؤثر في الأرض علامات برعيها. {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب} قرأ أبو بكر عن عاصم {ننبت} بالنون، وقرأ الباقون بالياء التحتية، أي: ينبت الله لكم بذلك الماء الذي أنزله من السماء، وقدّم الزرع لأنه أصل الأغذية التي يعيش بها الناس، وأتبعه بالزيتون لكونه فاكهة من وجه وإداما من وجه لكثرة ما فيه من الدّهن، وهو جمع زيتونة. ويقال للشجرة نفسها: زيتونة. ثم ذكر النخيل لكونه غذاء وفاكهة وهو مع العنب أشرف الفواكه، وجمع الأعناب لاشتمالها على الأصناف المختلفة، ثم أشار إلى سائر الثمرات فقال: {وَمِن كُلّ الثمرات} كما أجمل الحيوانات التي لم يذكرها فيما سبق بقوله: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وقرأ أبيّ بن كعب {ينبت لكم به الزرع} يرفع الزرع وما بعده {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي: الإنزال والإنبات {لآيَةً} عظيمة دالة على كمال القدرة والتفرّد بالربوبية {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في مخلوقات الله ولا يهملون النظر في مصنوعاته.
{وَسَخَّر لَكُمُ الليل والنهار} معنى تسخيرهما للناس: تصييرهما نافعين لهم بحسب ما تقتضيه مصالحهم وتستدعيه حاجاتهم، يتعاقبان دائماً، كالعبد الطائع لسيده لا يخالف ما يأمره به ولا يخرج عن إرادته ولا يهمل السعي في نفعه.
وكذا الكلام في تسخير الشمس والقمر والنجوم، فإنها تجري على نمط متحد يستدل بها العباد على مقادير الأوقات، ويهتدون بها ويعرفون أجزاء الزمان. ومعنى مسخرات: مذللات. وقرأ ابن عامر وأهل الشام: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات} بالرفع على الابتداء والخبر. وقرأ الباقون بالنصب عطفاً على {الليل والنهار} وقرأ حفص عن عاصم برفع {النجوم} على أنه مبتدأ وخبره {مسخرات بِأَمْرِهِ} وعلى قراءة النصب في مسخرات يكون حالاً مؤكدة، لأن التسخير قد فهم من قوله: {وَسَخَّرَ}؛ وقرأ حفص في رواية برفع مسخرات مع نصب ما قبله على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هي مسخرات، {إِنَّ فِى ذَلِكَ} التسخير {لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: يعملون عقولهم في هذه الآثار الدالة على وجود الصانع وتفرّده، وعدم وجود شريك له. وذكر الآيات لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة. وجمعها ليطابق قوله: {مسخرات}؛ وقيل: إن وجه الجمع هو أن كلا من تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم آية في نفسها، بخلاف ما تقدّم من الإنبات، فإنه آية واحدة، ولا يخلو كل هذا عن تكلف، والأولى أن يقال: إن هذه المواضع الثلاثة التي أفرد الآية في بعضها وجمعها في بعضها كل واحد منها يصلح للجمع باعتبار، وللإفراد باعتبار، فلم يجرها على طريقة واحدة افتناناً وتنبيهاً على جواز الأمرين وحسن كل واحد منهما.
{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الأرض} أي: خلق يقال: ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءاً: خلقهم، فهو ذارئ، ومنه الذرّية، وهي: نسل الثقلين، وقد تقدّم تحقيق هذا، وهو معطوف على النجوم رفعاً ونصباً، أي: وسخر لكم ما ذرأ في الأرض. فالمعنى: أنه سبحانه سخر لهم تلك المخلوقات السماوية والمخلوقات الأرضية. وانتصاب {مختلفاً ألوانه} على الحال، و{ألوانه}: هيئاته ومناظره، فإن ذرء هذه الأشياء على اختلاف الألوان والأشكال مع تساوي الكلّ في الطبيعة الجسمية آية عظيمة دالة على وجود الصانع سبحانه وتفرّده {إِنَّ فِى ذَلِكَ} التسخير لهذه الأمور {لآيَةً} واضحة {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} فإن من تذكر اعتبر، ومن اعتبر، استدلّ على المطلوب، قيل: وإنما خصّ المقام الأوّل بالتفكر لإمكان إيراد الشبهة المذكورة. وخصّ المقام الثاني بالعقل لذكره بعد إماطة الشبهة، وإراحة العلة، فمن لم يعترف بعدها بالوحداينة فلا عقل له. وخص المقام الثالث بالتذكر لمزيد الدلالة. فمن شك بعد ذلك، فلا حسّ له. وفي هذا من التكلف ما لا يخفى. والأولى: أن يقال هنا كما قلنا فيما تقدّم في إفراد الآية في البعض، وجمعها في البعض الآخر. وبيانه أن كلا من هذه المواضع الثلاثة يصلح لذكر التفكر، ولذكر التعقل، ولذكر التذكر، لاعتبارات ظاهرة غير خفية.
فكان في التعبير في كل موضع بواحد منها افتنان حسن لا يوجد في التعبير بواحد منها في جميع المواضع الثلاثة.
{وَهُوَ الذى سَخَّرَ البحر} امتنّ الله سبحانه بتسخير البحر بإمكان الركوب عليه واستخراج ما فيه من صيد وجواهر، لكونه من جملة النعم التي أنعم الله بها على عباده مع ما فيه من الدلالة على وحدانية الربّ سبحانه وكمال قدرته، وقد جمع الله سبحانه لعباده في هذا المقام بين التذكير لهم بآياته الأرضية والسماوية والبحرية، فأرشدهم إلى النظر والاستدلال بالآيات المتنوّعة المختلفة الأمكنة إتماماً للحجة، وتكميلاً للإنذار، وتوضيحاً لمنازع الاستدلال، ومناطات البرهان، ومواضع النظر والاعتبار، ثم ذكر العلة في تسخير البحر فقال: {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا} المراد به: السمك، ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته، والإرشاد إلى المسارعة بأكله لكونه مما يفسد بسرعة {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} أي: لؤلؤاً ومرجاناً كما في قوله سبحانه: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وظاهر قوله: {تَلْبَسُونَهَا} أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان أي: يجعلونه حلية لهم كما يجوز للنساء، ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله: {تَلْبَسُونَهَا} بقوله تلبسه نساؤهم، لأنهنّ من جملتهم، أو لكونهنّ يلبسنها لأجلهم، وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلاّ النساء خاصة، فإن ذلك ممنوع من جهة كونه تشبهاً بهنّ، وقد ورد الشرع بمعنه لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجان.
{وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ} أي: ترى السفن شواق للماء تدفعه بصدرها. ومخر السفينة: شقها الماء بصدرها. قال الجوهري: مخر السابح: إذا شقّ الماء بصدره، ومخر الأرض: شقها للزراعة، وقيل: مواخر جواري، وقيل: معترضة. وقيل: تذهب وتجيء، وقيل: ملججة. قال ابن جرير: المخر في اللغة: صوت هبوب الريح، ولم يقيد بكونه في ماء {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} معطوف على {تستخرجوا} وما بينهما اعتراض، أو على علة محذوفة تقديره: لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، أو على تقدير فعل ذلك لتبتغوا أي: لتتجروا فيه، فيحصل لكم الربح من فضل الله سبحانه: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: إذا وجدتم فضله عليكم وإحسانه إليكم، اعترفتم بنعمته عليكم فشكرتم ذلك باللسان والأركان. قيل: ولعلّ وجه تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر من حيث أن فيها قطعاً لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلة من غير مزاولة أسباب السفر، بل من غير حركة أصلاً مع أنها في تضاعيف المهالك، ويمكن أن يضم إلى ما ذكر من قطع المسافة على الصفة المذكورة ما اشتمل عليه البحر من كون فيه أطيب مأكول وأنفس ملبوس وكثرة النعم مع نفاستها وحسن موقعها من أعظم الأسباب المستدعية للشكر الموجبة له.
ثم أردف هذه النعم الموجبة للتوحيد، المفيدة للاستدلال على المطلوب بنعمة أخرى وآية كبرى، فقال: {وألقى فِى الأرض رَوَاسِىَ} أي: جبالاً ثابتة، يقال: رسا يرسو: إذا ثبت وأقام، قال الشاعر:
فصبرت عارفة لذلك حرة *** ترسو إذا نفس الجبان تطلع
{أَن تَمِيدَ بِكُمْ} أي: كراهة أن تميد بكم على ما قاله البصريون، أو لئلا تميد بكم على ما قاله الكوفيون، والميد: الاضطراب يميناً وشمالاً، ماد الشيء يميد ميداً تحرّك، ومادت الأغصان تمايلت، وماد الرجل تبختر {وأنهارا} أي: وجعل فيها أنهاراً، لأن الإلقاء، ها هنا بمعنى الجعل والخلق كقوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى} [طه: 39]. {وَسُبُلاً} أي: وجعل فيها سبلاً وأظهرها وبينها لأجل تهتدون بها في أسفاركم إلى مقاصدكم. والسبل: الطرق {وعلامات} أي: وجعل فيها علامات، وهي معالم الطرق، والمعنى: أنه سبحانه جعل للطرق علامات يهتدون بها {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} المراد بالنجم: الجنس، أي: يهتدون به في سفرهم ليلاً. وقرأ ابن وثاب {وبالنجم} بضم النون والجيم، ومراده: النجوم فقصره، أو هو جمع نحو كسقف وسقف. وقيل: المراد بالنجم هنا: الجدي والفرقدان قاله الفراء؛ وقيل: الثريا، وقيل: العلامات الجبال، وقيل: هي النجوم، لأن من النجوم ما يهتدى به، ومنها ما يكون علامة لا يهتدى بها.
وذهب الجمهور إلى أن المراد في الآية الاهتداء في الأسفار؛ وقيل: هو الاهتداء إلى القبلة، ولا مانع من حمل ما في الآية على ما هو أعمّ من ذلك. قال الأخفش: ثمّ الكلام عند قوله: {وعلامات} وقوله: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} كلام منفصل عن الأول؛ ثم لما عدّد الآيات الدالة على الصانع ووحدانيته وكمال قدرته أراد أن يوبخ أهل الشرك والعناد فقال: {أَفَمَن يَخْلُقُ} هذه المصنوعات العظيمة ويفعل هذه الأفاعيل العجيبة {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} شيئاً منها ولا يقدر على إيجاد واحد منها، وهو هذه الأصنام التي تعبدونها وتجعلونها شركاء لله سبحانه. وأطلق عليها لفظ {من} إجراء لها مجرى أولى العلم جرياً على زعمهم بأنها آلهة، أو مشاكلة لقوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ} لوقوعها في صحبته، وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ للكفار ما لا يخفى، وما أحقهم بذلك، فإنهم جعلوا بعض المخلوقات شريكاً لخالقه تعالى الله عما يشركون. {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} مخلوقات الله الدالة على وجوده وتفرّده بالربوبية وبديع صنعته فتستدلون بها على ذلك، فإنها لوضوحها يكفي في الاستدلال بها مجرّد التذكر لها.
ثم لما فرغ من تعديد الآيات، التي هي بالنسبة إلى المكلفين نعم، قال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} وقد مرّ تفسير هذا في سورة إبراهيم.
قال العقلاء: إن كل جزء من أجزاء الإنسان لو ظهر فيه أدنى خلل وأيسر نقص لنغص النعم على الإنسان، وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى يزول عنه ذلك الخلل، فهو سبحانه يدير بدن هذا الإنسان على الوجه الملائم له، مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك فكيف يطيق حصر بعض نعم الله عليه أو يقدر على إحصائها، أو يتمكن من شكر أدناها؟.
يا ربنا هذه نواصينا بيدك خاضعة لعظيم نعمك معترفة بالعجز عن بادية الشكر لشيء منها، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، ولا نطيق التعبير بالشكر لك، فتجاوز عنا واغفر لنا وأسبل ذيول سترك على عوارتنا فإنك إن لا تفعل ذلك نهلك بمجرّد التقصير في شكر نعمك، فكيف بما قد فرط منا من التساهل في الائتمار بأوامرك والانتهاء عن مناهيك، وما أحسن ما قال من قال:
العفو يرجى من بني آدم *** فكيف لا يرجى من الربّ
فقلت مذيلاً لهذا البيت الذي هو قصر مشيد:
فإنه أرأف بي منهم *** حسبي به حسبي به حسبي
وما أحسن ما ختم به هذا الامتنان الذي لا يلتبس على إنسان مشيراً إلى عظيم غفرانه وسعة رحمته فقال: {إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: كثير المغفرة والرحمة لا يؤاخذكم بالغفلة عن شكر نعمه، والقصور عن إحصائها، والعجز عن القيام بأدناها، ومن رحمته إدامتها عليكم وإدرارها في كل لحظة وعند كل نفس تتنفسونه وحركة تتحركون بها. اللهم إني أشكرك عدد ما شكرك الشاكرون بكلّ لسان في كل زمان، وعدد ما سيشكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان، فقد خصصتني بنعم لم أرها على كثير من خلقك، وإن رأيت منها شيئاً على بعض خلقك لم أرَ عليه بقيتها، فأني أطيق شكرك وكيف أستطيع بادية أدنى شكر أدناها فكيف أستطيع أعلاها؟ فكيف أستطيع شكر نوع من أنواعها؟
ثم بين لعباده بأنه عالم بجميع ما يصدر منهم، لا تخفى عليه منه خافية فقال: {والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} أي: تضمرونه من الأمور {وَمَا تُعْلِنُونَ} أي: تظهرونه منها. وفيه وعيد وتعريض وتوبيخ، وتنبيه على أنّ الإله يجب أن يكون عالماً بالسرّ والعلانية، لا كالأصنام التي يعبدونها، فإنها جمادات لا شعور لها بشيء من الظواهر فضلاً عن السرائر فكيف يعبدونها؟.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الأرض} قال: ما خلق لكم في الأرض مختلفاً من الدواب، والشجر والثمار، نعم من الله متظاهرة، فاشكروها لله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا} يعني: حيتان البحر {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} قال: هذا اللؤلؤ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: {وَهُوَ الذى سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا} قال: هو السمك وما فيه من الدواب.
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي جعفر، قال: ليس في الحلى زكاة، ثم قرأ: {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}. أقول: وفي هذا الاستدلال نظر، والذي ينبغي التعويل عليه أن الأصل البراءة من الزكاة حتى يرد الدليل بوجوبها في شيء من أنواع المال فتلزم، وقد ورد في الذهب والفضة ما هو معروف، ولم يرد في الجواهر على اختلاف أصنافها ما يدلّ على وجوب الزكاة فيها.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {مَوَاخِرَ} قال: جواري.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة {مَوَاخِرَ} قال: تشقّ الماء بصدرها.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك {مَوَاخِرَ} قال: السفينتان تجريان بريح واحدة مقبلة ومدبرة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} قال: هي التجارة.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {رَوَاسِىَ} قال: الجبال، {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} قال: حتى لا تميد بكم، كانوا على الأرض تمور بهم لا تستقرّ، فأصبحوا صبحاً وقد جعل الله الجبال، وهي الرواسي أوتاداً في الأرض.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: {وَسُبُلاً} قال: السبل هي الطرق بين الجبال.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والخطيب عن قتادة {وَسُبُلاً} قال: طرقاً {وعلامات} قال: هي النجوم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في الآية قال: علامات النهار الجبال.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر عن الكلبي {وعلامات} قال: الجبال: وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس {وعلامات} يعني: معالم الطرق بالنهار {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} يعني بالليل.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} قال: الله هو الخالق الرازق، وهذه الأوثان التي تعبد من دون الله تخلق ولا تُخلق شيئاً، ولا تملك لأهلها ضرّاً ولا نفعاً.


شرع سبحانه في تحقيق كون الأصنام التي أشار إليها بقوله: {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} عاجزة على أن يصدر منها خلق شيء فلا تستحق عبادة فقال: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي: الآلهة الذين يدعوهم الكفار من دون الله سبحانه صفتهم هذه الصفات المذكورة، وهي أنهم {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا} من المخلوقات أصلاً، لا كبيراً ولا صغيراً، ولا جليلاً ولا حقيراً.
{وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي: وصفتهم أنهم يخلقون، فكيف يتمكن المخلوق من أن يخلق غيره؟ ففي هذه الآية زيادة بيان، لأنه أثبت لهم صفة النقصان بعد أن سلب عنهم صفة الكمال، بخلاف قوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} فإنه اقتصر على مجرد سلب صفة الكمال. وقراءة الجمهور {والذين تدعون} بالمثناة الفوقية على الخطاب مطابقة لما قبله.
وروى أبو بكر عن عاصم، وروى هبيرة عن حفص {يدعون} بالتحتية، وهي قراءة يعقوب.
ثم ذكر صفة أخرى من صفاتهم فقال: {أموات غَيْرُ أَحْيَاء} يعني: أن هذه الأصنام أجسادها ميتة، لا حياة بها أصلاً، فزيادة {غير أحياء} لبيان أنها ليست كبعض الأجساد التي تموت بعد ثبوت الحياة لها، بل لا حياة لهذه أصلاً، فكيف يعبدونها وهم أفضل منها؟ لأنهم أحياء {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} الضمير في {يشعرون} للآلهة، وفي يبعثون للكفار الذين يعبدون الأصنام، والمعنى: ما تشعر هذه الجمادات من الأصنام أيان يبعث عبدتهم من الكفار، ويكون هذا على طريقة التهكم بهم، لأن شعور الجماد مستحيل بما هو من الأمور الظاهرة فضلاً عن الأمور التي لا يعلمها إلاّ الله سبحانه، وقيل: يجوز أن يكون الضمير في {يبعثون} للآلهة، أي: وما تشعر هذه لأصنام أيان تبعث، ويؤيد ذلك ما روي أن الله يبعث الأصنام ويخلق لها أرواحاً معها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار، ويدل على هذا قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]. وقيل: قد تمّ الكلام عند قوله: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ثم ابتدأ فوصف المشركين بأنهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون، فيكون الضميران على هذا للكفار، وعلى القول بأن الضميرين أو أحدهما للأصنام يكون التعبير عنها مع كونها لا تعقل بما هو للعقلاء جرياً على اعتقاد من يعبدها بأنها تعقل. وقرأ السلمي {إيان} بكسر الهمزة، وهما لغتان، وهو في محل نصب بالفعل الذي قبله.
{إلهكم إله واحد} لما زيف سبحانه طريقة عبدة الأوثان، صرح بما هو الحق في نفس الأمر، وهو وحدانيته سبحانه، ثم ذكر ما لأجله أصرّ الكفار على شركهم فقال: {فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} للوحدانية، لا يؤثر فيها وعظ، ولا ينجع فيها تذكير {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} عن قبول الحق، متعظمون عن الإذعان للصواب، مستمرون على الجحد {لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} قال الخليل: {لا جرم} كلمة تحقيق، ولا تكون إلاّ جواباً، أي: حقاً أن الله يعلم ما يسرّون من أقوالهم وأفعالهم وما يعلنون من ذلك، وقد مرّ تحقيق الكلام في {لا جرم} {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين} أي: لا يحبّ هؤلاء الذين يستكبرون عن توحيد الله والاستجابة لأنبيائه، والجملة تعليل لما تضمنه الكلام المتقدّم.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ} أي: وإذا قال لهؤلاء الكفار المنكرين المستكبرين قائل: ماذا أنزل ربكم؟ أي: أيّ شيء أنزل ربكم؟ أو ماذا الذي أنزل؟ قيل: القائل النضر بن الحارث والآية نزلت فيه؛ فيكون هذا القول منه على طريق التهكم؛ وقيل: القائل هو من يفد عليه؛ وقيل: القائل المسلمون، فأجاب المشركون المنكرون المستكبرون فقالوا {أساطير الأولين} بالرفع أي: ما تدّعون أيها المسلمون نزوله أساطير الأوّلين، أو أن المشركين أرادوا السخرية بالمسلمين فقالوا: المنزل عليكم أساطير الأوّلين. وعلى هذا فلا يرد ما قيل من أن هذا لا يصلح أن يكون جواباً من المشركين، وإلاّ لكان المعنى الذي أنزله ربنا أساطير الأوّلين والكفار لا يقرّون بالإنزال، ووجه عدم وروده هو ما ذكرناه؛ وقيل: هو كلام مستأنف، أي: ليس ما تدّعون إنزاله أيها المسلمون منزلاً بل هو أساطير الأوّلين؛ وقد جوّز على مقتضى علم النحو نصب {أساطير} وإن لم تقع القراءة به، ولا بدّ في النصب من التأويل الذي ذكرنا، أي: أنزل على دعواكم أساطير الأوّلين، أو يقولون ذلك من أنفسهم على طريق السخرية. والأساطير: الأباطيل والترّهات التي يتحدّث الناس بها عن القرون الأولى. وليس من كلام الله في شيء، ولا مما أنزله الله أصلاً في زعمهم.
{لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً} أي قالوا: هذه المقالة لكي يحملوا أوزارهم كاملة. لم يكفر منها شيء لعدم إسلامهم الذي هو سبب لتكفير الذنوب. وقيل: إن اللام هي لام العاقبة، لأنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير لأجل يحملون الأوزار، ولكن لما كان عاقبتهم ذلك حسن التعليل به كقوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8]. وقيل: هي لام الأمر {وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ} أي: ويحملون بعض أوزار الذين أضلوهم، لأن من سنّ سنّة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها. وقيل: {من} للجنس، لا للتبعيض أي: يحملون كل أوزار الذين يضلونهم، ومحلّ {بِغَيْرِ عِلْمٍ} النصب على الحال من فاعل {يضلونهم} أي: يضلون الناس جاهلين غير عالمين بما يدعونهم إليه. ولا عارفين بما يلزمهم من الآثام. وقيل: إنه حال من المفعول أي: يضلون من لا علم له، ومثل هذه الآية: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ}
[العنكبوت: 13].
وقد تقدّم في الأنعام الكلام على قوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] {أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} أي: بئس شيئاً يزرونه ذلك.
ثم حكى سبحانه حال أضرابهم من المتقدّمين فقال: {قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ} ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به نمروذ بن كنعان حيث بنى بناءً عظيماً ببابل، ورام الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها، فأهبّ الله الريح، فخرّ ذلك البناء عليه وعلى قومه فهلكوا، والأولى أن الآية عامة في جميع المبطلين من المتقدّمين الذين يحاولون إلحاق الضرّ بالمحقين. ومعنى المكر هنا الكيد والتدبير الذي لا يطابق الحق، وفي هذا وعيد للكفار المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بأن مكرهم سيعود عليهم كما عاد مكر من قبلهم على أنفسهم {فَأَتَى الله بنيانهم} أي: أتى أمر الله، وهو الريح التي أخربت بنيانهم. قال المفسرون: أرسل الله ريحاً، فألقت رأس الصرح في البحر، وخرّ عليهم الباقي {مّنَ القواعد} قال الزجاج: من الأساطين، والمعنى: أنه أتاها أمر الله من جهة قواعدها فزعزعها {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فوقهم} قرأ ابن أبي هريرة، وابن محيصن {السقف} بضم السين والقاف جميعاً. وقرأ مجاهد بضم السين وسكون القاف، وقرأ الباقون {السقف} بفتح السين وسكون القاف، والمعنى: أنه سقط عليهم السقف، لأنه بعد سقوط قواعد البناء يسقط جميع ما هو معتمد عليها. قال ابن الأعرابي، وإنما قال: {من فوقهم} ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته، والعرب تقول خرّ علينا سقف، ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه، فجاء بقوله: {مّن فَوْقِهِمْ} ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب، فقال: {مّن فَوْقِهِمْ} أي: عليهم وقع، وكانوا تحته فهلكوا، وما أفلتوا. وقيل: إن المراد بالسقف: السماء، أي: أتاهم العذاب من السماء التي فوقهم. وقيل: إن هذه الآية تمثيل لهلاكهم؛ والمعنى: أهلكهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه عليه.
وقد اختلف في هؤلاء الذين خرّ عليهم السقف، فقيل: هو نمروذ كما تقدّم، وقيل: إنه بختنصر وأصحابه، وقيل هم المُقسمون الذين تقدّم ذكرهم في سورة الحجر {وأتاهم العذاب} أي: الهلاك {مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} به، بل من حيث أنهم في أمان.
ثم بين سبحانه أن عذابهم غير مقصور على عذاب الدنيا. فقال: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ} بإدخالهم النار، ويفضحهم بذلك ويهينهم، وهو معطوف على مقدّر، أي هذا عذابهم في الدنيا، {ثم يوم القيامة يخزيهموَيَقُولُ} لهم مع ذلك توبيخاً وتقريعاً {أَيْنَ شُرَكَائِىَ} كما تزعمون وتدّعون، قرأ ابن كثير من رواية البزي {شركاي} من دون همز، وقرأ الباقون بالهمز، ثم وصف هؤلاء الشركاء بقوله: {الذين كُنتُمْ تشاقون فِيهِمْ} قرأ نافع بكسر النون على الإضافة، وقرأ الباقون بفتحها، أي: تخاصمون الأنبياء والمؤمنين فيهم، وعلى قراءة نافع تخاصمونني فيهم وتعادونني، ادعوهم فليدفعوا عنكم هذا العذاب النازل بكم.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {لاَ جَرَمَ} يقول: بلى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك {لاَ جَرَمَ} قال: يعني الحق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: لا كذب.
وأخرج مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه وغيرهم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان»، فقال رجل: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال: «إن الله جميل يحبّ الجمال، الكبر بطر الحق وغمص الناس» وفي ذمّ الكبر، ومدح التواضع أحاديث كثيرة، وكذلك في إخراج محبة حسن الثوب وحسن النعل، ونحو ذلك من الكبر أحاديث كثيرة. والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن ماهية الكبر أنه بطر الحق وغمص الناس، فهذا هو الكبر المذموم.
وقد ساق صاحب الدرّ المنثور عند تفسيره لهذه الآية: أعني قوله سبحانه: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين} أحاديث كثيرة ليس هذا مقام إيرادها، بل المقام مقام ذكر ماله علاقة بتفسير الكتاب العزيز.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {قَالُواْ أساطير الأولين} أن ناساً من مشركي العرب كانوا يقعدون بطريق من أتى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فإذا مرّوا سألوهم فأخبروهم بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنما هو أساطير الأوّلين.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ} الآية يقول يحملون مع ذنوبهم ذنوب الذين يضلونهم بغير علم. وذلك مثل قوله سبحانه: {وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13].
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه، وزاد: ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئاً.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ} قال: نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير عن زيد بن أسلم أنه النمروذ أيضاً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {فَأَتَى الله بنيانهم مّنَ القواعد} قال: أتاها أمر الله من أصلها {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} والسقف: أعالي البيوت فائتكفت بهم بيوتهم، فأهلكم الله ودمرهم {وأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس {تشاقون فِيهِمْ} قال: تخالفوني.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6